خوفنا من الأنانية تحول لظلم صارخ لأنفسنا… لقد تربينا على أن نفضل غيرنا على أنفسنا وأن نحرم أنفسنا من أشياء نحتاجها حتى نوفرها لغيرنا من أجل إسعاده سواء كان زوج، حبيب، صديق، شقيق وغيره. ولكن مع الوقت وشيئًا فشيئًا أصبحنا نجهل احتياجاتنا، وكأن شخصياتنا تماهت مع شخصيات الآخرين. أليس من حقنا أن نفعل شيء لأنفسنا، هل سنظل نحرم أنفسنا من أجل الآخرين، لماذا يجب أن يلازمنا احساس الحرمان طوال الوقت؟! جزء من نقاش دار بيني وبين صديقتي منذ فترة.
في الحقيقة جعلني هذا الكلام أفكر مرارًا وتكرارًا فيما نتعايش معه، وفيما نقرأه من نصائح أخضائي الصحة النفسية حول ضرورة وضع نفسك أولًا وتقديرها، وفيما تربيت عليه أنه يجب أن أفكر في نفسي آخر شيء، أيهما أصح؟!
نفسي أولًا… أقولها بصوت عال
جلست فترة أدقق في تصرفاتي وفي الطريقة التي أتعامل بها مع غيري ومع نفسي. لقد وجدتني أفعل الشيء ذاته معهم، احتياجاتهم قبل احتياجاتي، سعادتهم قبل سعادتي، ليس هذا فقط، بل في أوقات كثيرة أتخلى عما أريده من أجل غيري. الغريب في الأمر هو تعامل الآخرين، لقد تعاملوا مع هذه الأشياء على أنها حق مكتسب وفرض يجب أن أقوم به. وفي الوقت الذي لا أنتظر فيه شكر أو تقدير على شيء، غيري يرى أنني لا أستحقه من الأساس! لقد كانت رؤيتي لهذا الأمر بهذا الشكل الواضح مؤلمة لحد كبير، ليس لأنني أنتظر أن يرد لي الأمر بالمثل أو يقول لي أحدهم كلمة شكر، أو أنني نادمة على "اختياري" ولكن الألم أنني في الوقت الذي كنت أحرم فيه نفسي لإسعاد غيري رغم أنه ليس واجبي أو خطأي أو مسئوليتي، كان الطرف الآخر يراه "عادي".
“نقف بقى لحظة و نسأل نفسنا : هي الشيلة دي شيلة مين ؟ هي القضية دي قضية مين ؟ هو أنا عايش لحساب مين ؟” (من كتاب لا بطعم الفلامنكو للدكتور محمد طه)
كان إدراكي لهذا بداية للتفكير فيما أفعله وتحليله، لماذا أتحمل أشياء لست مسئولة عنها أو ليست خطأي، لماذا علي أن أعوض غيري أن أشياء أفتقدها في حياتي، إذا كنت أضع سعادة غيري من مسئوليتي فمن مسئول عن سعادتي؟! وأنتهت دوامة التفكير هذه بجملة واحدة " لست أنانية ولكن نفسي أولًا".
جانب من مواقف مشابهة لأشخاص محيطين بي فضلوا غيرهم على أنفسهم:
"عندما ترك حبيبي عمله، كنت أشعر أنني لا أستحق أن أخرج أو أتناول طعام خارج المنزل، أو أشتري ثياب جديدة، وأنني يجب فقط أن أسعده طوال الوقت، وكان يعلم ذلك ويعلم أنني أحرم نفسي من السعادة أو الاستمتاع بالحياة، ولكني تفاجأت أنه يفعل النقيض، فهو يشتري ملابس جديدة ويلتقي بأصدقائه، ولا يشغل نفسه بأنه بدون عمل."
"صديقتي المقربة تعاني من بعض المشاكل العائلية، وكنت طوال الوقت أقترحها عليها حلول وأفكار لتنهي مشاكلها هذه وتبدأ في اتخاذ خطوات جدية في حياتها، ولكنها كل مرة كانت تخبرني، أن هذا ليس مناسبًا لها، وهذه الفكرة لا تروق لها، وهذا يتطلب مجهود منها، واستمر الحال يوميًا أنا أخصص وقت طويل من يومي من أجلها، وأبحث عن أي فرص لها، وهي تستمر في الرفض، حتى أنني أصبحت أشعر بالحزن الشديد وكأنني صاحبة المشكلة، الغريب أنها في كل مرة كانت تتهمني بأنني لا أسعادها وأشعر بها!"
ماذا حدث عندما وضعت نفسي أولًا؟
في إحدى مناقشاتي مع طبيبي النفسي أخبرني أن التغيير له توابع وله ثمن، لذا إذا أردت أن أغير قواعد اللعبة، وأضع نفسي أولًا، يجب أن أكون مستعدة للثمن. لم أكن حينها مستوعبة ماذا يعني الثمن، ولكن أدركته سريعًا، للأسف. لم يكن التغيير سهلًا، فهي عملية وخطوات يجب السير عليها، ولكن رد الفعل كان أسرع مما تخيلت. فعندما توقفت عن تفضيل جميع من حولي على حساب نفسي، انهالت علي الاتهامات " بطلتي تحبينا، أنتي اتغيرتي، أكيد حد هو اللي غيرك علينا، وغيرها" قائمة طويلة من الاتهامات القاسية، لمجرد أنني قبل اتخاذ أي قرار بدأت أفكر هل مريح لي، هل أنا مستعدة لهذه الخطوة، هل صحتي النفسي والعصبية ستتأثر، وكل هذا لم يروق للمحيطين بي.
الغريب في الأمر أن بعضهم حاول أن يشعرني بالذنب، وأنني مسئولة بشكل أو بآخر عن إسعاده ومساعدته طوال الوقت، وإذا لم أفعل ذلك فهذا يعني أنني أتخلى عن مسئوليتي! لقد وجدت نفسي متهمة بعدما كنت بالأمس أضحي بسعادتي من أجل الآخرين. ومع الوقت ومع إصراري على موقفي، البعض بدأ يعود لصوابه ويراجع نفسه، والبعض ابتعد عني لأنه لم يعد هناك ما يجعله يستمر في هذه العلاقة، والبعض مازال يراني متهمة!! وكان هذا هو الثمن، وكأن زلزال ضرب دائرة علاقاتي.
كيف كان شعوري بعدما اخترت نفسي أولًا؟
لقد مررت بعدة مراحل، في البداية ندمت على أنني اتخذت هذه الخطوة، وأعترف أن البعض نجح في أن يجعلني أشعر بالذنب والمسئولية، ثم شعرت بالخسارة عندما ابتعد عني البعض، ولكن كان هناك شيء بداخلي يخبرني بأن أكمل تجربتي، ومع الوقت شعرت بالراحة! شيء لم أكن أشعر به من قبل، وكأن أحدهم أزاح قدم فيل من على صدري! لقد بدأت أستكشف ما يسعدني حقًا وما أريده، لقد أصبحت أميز متى يجب أن أتخلى عن شيء من أجل غيري ومتى أتمسك بالشيء الذي أحتاجه، بدأت أقدر نفسي وأفهمها، وأستوعب احتياجاتها التي لم أكن أعلم عنها شيء من قبل! مشاعر جديدة أختبرها ولكنها جيدة. لقد فهمت الفرق بين تفضيل النفس والأنانية!
الفرق بين أن تضع نفسك أولًا والأنانية؟
هذا ما كنا نجهله! لقد اعتقدنا على مدار سنوات أن اهتمامنا بأنفسنا هو أنانية في حين أن الاثنين مختلفين تمامًا…
عندما نهتم بأنفسنا ونضعها أولًا، فنحن نلزم أنفسنا "نحن فقط" بتلبية احتياجاتها ولا نجبر شخص آخر مهما كان على تلبية حاجاتنا، لأنها ببساطة مسئوليتنا.
عندما نضع أنفسنا أولًا نحن لا نسلب من شخص آخر أي شيء، بل نحاول أن نمنح أنفسنا ما ينقصنا.
عندما نضع أنفسنا أولًا، فنحن نجعلها مكتفية ذاتيًا من الحب والاهتمام والتقدير لتكون قادرة على منح غيرها الحب اللازم.
هذه الاختلافات البسيطة هي الحد الفاصل بين الأنانية وأن نضع أنفسنا أولًا، وهذا يعني أننا عندما وضعت نفسي أولًا لم أكن أنانية بالمرة.
كيف تضع نفسك أولًأ؟
الخطوة الأولى والأهم دومًا هي اتخاذ القرار، ثم تأتي باقية الخطوات…
-حددي أولوياتك واحتياجاتك أولًا
الأمر هنا لا يعني تجاهل احتياجات الآخرين، ولكن يعني فهم احتياجاتك ومحاولة تلبيتها ثم فهم احتياجات الآخرين. فهم الأشخاص الأهم في حياتك، الأمور التي تعتبرينها أولوية وهكذا.
-افهمي قدرتك وطاقتك
ليس من الطبيعي والمنطقي أن تتحملي فوق طاقتك أو قدرتك لإسعاد الآخرين، فهذا يعني أن هذه الطاقة ستنفذ مع الوقت وستحتاجين للدعم. فالأهم هو فهم طاقتك وقدرتك، وما تستطيعين فعله وما لا تستطيعين.
-وازني بين احتياجاتك وقدرتك على العطاء للآخرين
العطاء شيء جيد ويجعلنا نشعر بالسعادة، ولكن عندما يقابله حرمان أنفسنا من احتياجاتنا، فهذا ليس صحيًا بالمرة. لذا الموازنة مطلوبة، كما تسعي لإسعاد الآخرين، يجب أن تسعي لإرضاء نفسك واحتياجاتك.
أخيرًا، أن تضعي نفسك أولًا شيء جيد ولكنه ليس سهل بالمرة، فربما تفعلين أشياء صعبة وربما تواجهين تخلي بعض الأشخاص عنك أو ربما أنت تتخلين عن بعض الأشخاص، فهي عملية تمر بعدة مراحل ولكنها تستحق!