عندما تسمعين أن أحدهم مكتئب فورًا ترتسم في مخيلتك صورة لشخص لا يغادر سريره ويبكي طوال الوقت والهالات السوداء تسيطر على وجهه، وإذا كان هذا الشخص قريب منك، فورًا تتذكرين المرات التي أسأت إليه فيها، والكلام الذي ذكرتيه على سبيل المزاح ويمكن أن يكون هو السبب في الاكتئاب الذي يشعر به الآن، وتبدأين في محاسبة نفسك. ولكن ماذا إن رأيتيه يضحك ويبتسم ويبدو بكامل أناقته؟! حسنًا، سأرد أنا نيابة عنك. ستقولين على الفور أين هذا الاكتئاب أنا لا أراه. كيف لمكتئب أن يكون بهذه البهجة، بالطبع هو لا يعاني من الاكتئاب. ولكن هل سمعتي من قبل عن الوجه الآخر للاكتئاب؟! هذا ما سأحدثك عنه اليوم...
٥٠ جملة سلبية توقفي فورًا عن قولها لنفسك
ما هو الوجه الآخر للاكتئاب؟
هو بالضبط ما يطلق عليه "الاكتئاب الضاحك". فببساطة يقوم فيه الشخص المكتئب بإخفاء جميع أعراض اكتئابه خلف ابتسامه أو ضحكه. فتجدينه يظهر في أبهى صورة له ويخرج ويلتقي بأصدقائه ويذهب لعمله والضحكة لا تفارق وجهه، ولكنه في الوقت ذاته يعاني من جميع أعراض الاكتئاب المعهودة والمعروفة. مثل الحزن العميق، الشعور بالوحدة وغيرها من الأعراض، أما بالنسبة لنوبات البكاء، فللمفاجأة هم يعانون منها أيضًا ولكن فقط عندما يكونون بمفردهم. فبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن الأفراد المصابون بالاكتئاب المبتسم يكونون في حالة أداء عالٍ. وقد يحتفظون بوظيفة ثابتة ويستمرون في الحفاظ على حياة اجتماعية نشطة. حتى أنهم قد يبدون مبتهجين ومتفائلين.
إذًا، لا يعني أبدًا أن هذا الشخص يضحك ويبتسم أنه لا يعاني من الاكتئاب، بل الحقيقة هو أنه يعاني من الوجه الآخر من الاكتئاب أو لديه ما يسمى بـ "الاكتئاب الضاحك".
إذًا، لماذا يخفي هؤلاء أعراض الاكتئاب الحقيقة التي يعانون منها؟
يقول متخصصو الصحة النفسية أن الاكتئاب الضاحك، حالة يختارها مريض الاكتئاب نتيجة لمحاولته جاهدًا لإخفاء أعراض اكتئابه عن جميع المحيطين به، والسبب في ذلك هو...
- الخوف من رد الفعل العنيف
نعم، يواجه مصابو الاكتئاب رد فعل عنيف، خاصة إذا كانوا من -وجهة نظرنا الشخصية- بأفضل حال. دعيني أوضح لك الأمر بمثال...
منذ فترة ظهرت المدونة المصرية الشهيرة هادية غالب وهي تتحدث عن معاناتها من الاكتئاب، الأمر الذي دفعها للابتعاد قليلًا والتوجه لطلب المساعدة والخضوع للعلاج النفسي. وأوضحت أنها اتخذت خطوة الإفصاح هذه، بعدما خضعت للعلاج لفترة طويلة لم يكن أحد يعلم عنها شيء، أي في الوقت الذي كنا نراها فيها تنشر صورًا وفيديوهات مبهجة!! ورغم كل ما قالته خلال هذا الفيديو، ماذا حدث؟ واجه الناس هذا التصريح بالسخرية والتنمر، وانهالت عبارات مثل، كيف تعانين من الاكتئاب وأنت لديك أموال طائلة، كيف تعانين من الاكتئاب وأنت تسافرين متى وأينما شئت، كيف تعانين من الاكتئاب وأنت لديك سيارة فارهة ولديك شركتك الخاصة، أي اكتئاب هذا الذي تتحدثين عنه وأنت أمامنا بأفضل صورة، إذا كنت أنت تعاني من الاكتئاب فماذا نفعل نحن؟!
هل رأيت، بسبب هذه التعليقات تحديدًا اختارت "هادية" منذ البداية أن تخفي اكتئابها. نحن نصادر الحق في المعاناة، ونعتبر المعاناة والاكتئاب شيء مقتصرًا فقط على هؤلاء الذين يعيشون حياة صعبة غير ميسورة الحال. ونتغافل عن أن لكل منا معاناة مختلفة عن الآخر، والشيء الذي لا يمكن ألا أتحمله أنا، يمكن أن تتحمليه أنت والعكس. نحن نمنح أنفسنا الحق بالتنمر والسخرية من آلام الغير، ونمزج ما بين التنمر والانتقاد. بالطبع، يحق لك ألا تتقبل أسلوب شخص وتصرفاته، ولكن لا يحق لك أن تشن حربًا وهجومًا نفسيًا عليه.
لذا ولهذا السبب تحديدًا، يختار مصابو الاكتئاب الوجه الآخر منه، ويظهرو بالوجه الضاحك للاكتئاب، في الوقت الذي يكونون فيه بأمس الحاجة ليد تدعمهم وتساندهم.
- الإنكار
نحن كبشر نميل إلى الإنكار لأنه أسهل الطرق دومًا. فمثلًا، عندما يخبرك أحدهم أنك إذا استمررت بهذا الشكل ستفشلين في وظيفتك، ويكون أمامك خيارين إما بذل مجهود أكثر لتطوير نفسك ومهاراتك أو الإنكار وعدم الاعتراف بخطأك، ففي الغالب تختارين الأسهل، إلا إذا كنت على قدر كافي من الوعي وإدراك نقاط قوتك وضعفك. الحال ذاته، مع مرضى الاكتئاب، فهم ينكرون إصابتهم، بل ويحاربونها بالابتسامة، اعتقادًا منهم أن ذلك سيحل الأمر. ولكن للأسف، الإنكار دومًا لا يفيد.
- الخوف من الضعف
أتذكر عندما كنت أصغر سنًا، كنت عندما أبكي يقول لي من حولي، لماذا تبكين أنت قوية، لا تبكي. حتى أنني تولدت لدي قناعة بأن التعبير عن المشاعر والبكاء هو ضعف، وأن الضعف شيء سيء لا يجب أن نظهره للغير. لذا ظللت لسنوات لا أبكي مهما تألمت. حتى صادفت إحدى مقالات الصحة النفسية تتحدث عن الأمر، وأدركت حينها كم الإساءة التي تعرضت لها، وكم الأذى الذي فعلته بنفسي عندما رفضت التعبير عن مشاعري، خوفًا من أن يقول عني المحيطين أنني ضعيفة. ومن هنا قررت ألا أبالي، فقط أعبر عن مشاعري عندما أحتاج ذلك بغض النظر عما يقوله من حولي. وهذا بالضبط ما يحدث مع مرضى الاكتئاب، فهم يختارون إخفاءه حتى لا يتهمهم من حولهم بالضعف.
- الخوف من النبذ!!
للأسف، نحن كبشر لا نقدر آلام الغير، إلا القليل منا. نحن نطالب الجميع أن يكونوا آلات، يعملوا دون أن يشتكوا، وإذا اشتكوا، نبحث عن غيرهم على الفور. ببساطة، كم مرة مرضت فيها وخشيت أن تفصحي عن مرضك خوفًا من أن ينبذك من حولك، أو أن تخسرين وظيفتك أو يبتعد عنك أصدقائك. وهذا وأنت تعلمين أنه مجرد مرض مؤقت وسيتم علاجه. فمابالك بمرضى الاكتئاب الذين يعلمون أن رحلتهم مع هذا المرض قد تكون أبدية، وأن انتكاستهم يمكن أن تجعلهم لا يغادرون السرير لأيام. فماذا سيحدث إن أفصحوا عن مرضهم. هم يعلمون أن احتمالية تعرضهم للنبذ ستكون كبيرة. لذا يختارون الصمت والكتمان.
- البحث عن المثالية
تريدين الحقيقة، أنا أكره كلمة مثالية. هذه الكلمة التي وضعت لنا معايير تفوق طاقتنا وقوة تحملنا، يجب أن يكون لديك جسم مثالي، بشرة مثالية، شعر مثالي، يجب أن تكوني مثالية في المدرسة ثم العمل، يجب أن تكوني زوجة مثالية وأم مثالية، حقًا، من وضع معايير المثالية هذه!! إذا كنا نطالب مرضى الاكتئاب بالمثالية دومًا، فبالطبع لن يفصحوا عن اكتئابهم، لأنهم يعتبرون أن ذلك جزء ناقص في شخصيتهم، ما يعني أنهم ليسوا مثاليين وهذا لا يتناسب مع معايير المجتمع.
وبالطبع هناك أسباب أكثر من ذلك بكثير تدفع مرضى الاكتئاب لإخفاء اكتئابهم وأعراض واختيار الوجه الآخر منه، ولكني ببساطة اخترت أبرزها.
سألنا النساء، كيف أثرت السوشيال ميديا على حياتك؟ الإجابات مفاجأة
كيف أعرف أن شخص قريب مني مصاب بالاكتئاب؟
إذا كنت تفكرين الآن وتتسائلين أنه إذا كان هناك ما يسمى بالاكتئاب الضاحك، فكيف لي أن أعرف أن شخص قريب مني مصاب بالاكتئاب. أخبرك ببساطة، لاحظي أدق تصرفاته. هل تغيرت شهيته؟ هل يعاني من اضطراب في النوم؟ هل اختلفت نشاطاته عن وقت سابق؟ كل هذا يمكن أن يحدث بشكل طفيف للغاية لأنه يتعمد إخفاءه ولكن إن كنت تهتمين حقًا بهذ الشخص، فستلاحظين ما أحدثك عنه.
إذًا، كيف أتصرف مع شخص مصاب بالاكتئاب الضاحك؟
اجعليه يفصح عنه، كيف؟ تحدثي أمامه طوال الوقت عن أهمية الصحة النفسية، وكيف أنه لا عيب في أن يتحدث الشخص عن معاناته وأن هذا لا يقلل منه. أخبريه أنك لا تتفقين مع هؤلاء الذين يصادرون على حق الغير في الحزن والآلم. اجعليه يطمئن لك، وهو بدوره سيعبر عما يشعر به، ثم بعد ذلك اقنعيه بطلب المساعدة من شخص متخصص، أو اصطحبيه بنفسك لطبيب نفسي أو معالج.
كيف أحمي نفسي والمحيطين بي من الاكتئاب الضاحك والاكتئاب بشكل عام؟
ببساطة، لا تصدري أحكامًا على الغير حتى لا يصدر غيرك عليك أحكامًا. فإذا كان أحدهم يمتلك الملايين لا يعني أنه لا يعاني، وإذا كان أحدهم يعيش في منزل كبير لا يعني أنه لا يعاني. جميعنا نعاني، فلنكن لطفاء. يمكنك ألا تتقبلي تصرفات الغير كما شئت ولكن دون انتقاد جارح ومؤذي، وتذكري أنه مثلما تنتقدين صديقتك التي تعاني من اكتئاب وهي تمتلك منزل كبير، هناك جارتك تنتقدك لأنك تقولين أنك حزينة، وأنت تمتلكين منزل أكبر من منزلها وهكذا.
أعلم أننا بشر، وأن السوشيال ميديا جعلتنا نرى السعادة بشكل خاطئ، وأنه في أحيان كثيرة يكون خارج عن إرادتنا عندما ننظر للغير ونراهم يمتلكون أشياء لا نمتلكها أو يسافرون في أماكن لا يمكننا الذهاب إليها، ولا بأس في هذا الشعور، الأهم من ذلك أن تذكري نفسك كلما راودك هذا الشعور، أن لديك حياة لا يمتلكها غيرك، وأن جميعنا كبشر مختلفون وسنظل كذلك دومًا، ويجب أن تكون نظرتنا للسعادة أيضًا مختلفة. فالسعادة ليس مرتبطة بالسفر، ولا بالمنازل الكبيرة والسيارات الفارهة وماركات الملابس العالمية وغيرها، بل هي مرتبطة بشعورك أنت الداخلي. يمكنك أن تمتلكي كل شيء وألا تكوني سعيدة، لأنك ببساطة تدخلين نفسك في مقارنات مع غيرك.
مصدر الصورة الرئيسية: انستجرام @hadiaghaleb